سطوع المحجة في فضائل وأعمال عشر ذي الحجة
تاريخ النشر : 2021-02-22
عدد المشاهدات : 2765
مرات التحميل : 23
مقالات الحج وعشر ذي الحجة (2)
سطوع المحجة في فضائل وأعمال عشر ذي الحجة
الحمد لله الذي بفضله تتوالى أيام الفضائل، وبرحمته تتعاقب مواسم النوائل، وتتعالى بها مراتب الجزائل؛ لتكون مغنمًا للطائعين، وميدانًا لتنافس المتنافسين، له الحمد كما ينبغي، وله الثناء كما يصطفي، وأصلي وأسلم على المصطفى المختار، وعلى آله وأصحابه الأخيار.
أمَّا بعد: فهذا مقال وجيز فيما نستقبل مِن الأيام، أعني أيام العشر الأولى مِنْ شهر ذي الحجة، وقد جعلت الكلام فيه على قسمين:
القسم الأول: بيان فضلها.
والقسم الثاني: الأعمال التي تُشرع في عشر ذي الحجة.
وفي هذا ما أرجوه مِن الثواب والنفع لمن قرأه وتَقَفَّاه.
1- فضل أيام العشر
لقد نوَّه الله -عز وجل- بأيام العشر في كتابه إذ أقسم فقال: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾[الفجر:1-2] قال ابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهم-، ومجاهد، وغير واحد مِن السلف: "إنَّها عشر ذي الحجَّةِ". وحسْبها مِن الفضل ذلك القسم مِنْ ذي العزة والجلال، ثمَّ قد جاء صريح السنة وصحيحها ببيان فضل هذه العشر مِنْ حديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنيا أيَّامُ العَشْرِ -يعني عَشْرَ ذِي الحجَّةِ- قِيلَ: ولَا مِثلُهُنَّ في سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا مِثلُهُنَّ في سَبيلِ اللَّهِ، إِلَّا رجلٌ عَفَّرَ وَجهَهُ فِي التُّرابِ»([1]).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»([2]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما –أيضًا- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى. قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». قال -أي القاسم بن أبي أيوب راوي الحديث عن سعيد بن جبير-: "وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ"([3]).
والأحاديث والآثار في هذا صعبة الحصر، جَمَّةُ الوَفْر، يُستغنى بالمذكور منْها عن التي لم تذكر، وفي الذي ذُكر يتجلَّى موضع هذه الأيام عند الله، حيث وردت الأحاديث أنَّها أفضل مطلقًا مِنْ سائر أيام الدهر، فانظر كيف فَضَّلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أيام رمضان والأشهر الحرم؟! ولم يستثن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن الأيام شيئًا، حتى أيام العشر الأخيرة مِنْ رمضان، إلا أنَّ ليالي العشر مِنْ رمضان خير مِنْ ليالي العشر مِنْ ذي الحجة؛ لأنَّ نصَّ الحديث في الأيام دون الليالي، وبذلك تجتمع الأدلة وينجلي الأمر، ولعل الحكمة في فضل تلكَ العشر أنها مجتمع أمهات العبادات ومَعِنَّتُها، فالعبادة إمَّا أنْ تكون مالية، أو بدنية، أو جامعة للأمرين، وكل ذلك حاصل في هذه الأيام العشر، ففيها تؤدَّى أهمُّ أعمال فريضة الحجِّ، وفيها يوم عرفة الفضيل خير أيام السَّنَة، والحج عبادة مالية بدنية، وصيام يوم عرفة عبادة بدنية، وفيها ذبح الأضاحي والهدي والصدقات وهي قُربات ماليَّة، ثم هي أيام تكبير وتهليل وذِكر لله وتعظيمه، والذِّكر مِنْ أفضل الطاعات المرسلة، فلْيَهْنِ مَنْ تقرب فيها إلى الله بالأجر والمثوبة.
وينبغي للمسلم أنْ يستقبل هذه العشر بالتوبة النصوح مِنْ جميع الذنوب والمعاصي، والتخلص مِنْ مظالم العباد وحقوقهم، فإنَّ الله سبحانه حَثَّ على التوبة والإنابة، ولا شكَّ أنَّ أيام العشر مِنْ ذي الحجة مِنْ أولى الأيام التي تُطلب فيها التوبة والإنابة؛ لما يُرجى فيها مِنْ قبول التوبة بإذن الله. وإذا كانت التوبة واجبة في الأزمان كلها فهي في الأيام الفضيلة أوْجَب قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾[التحريم:8]، وقال سبحانه: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور:31].
2- الأعمال التي تُشرع في عشر ذي الحجة
مِن المعلوم أنَّ الزمن لا يَشرف إلا بما يكون فيه مِنْ طاعة الله، فخَيْر أيام العبد ما كثرت فيه طاعته، وقَلَّت فيه معصيته، فالطاعة هي المـُشَرِّفة للزمان والمكان، فأيّما زمان أو مكان شاعتْ فَضيلته، وجزلت مثوبته فإنَّما كان ذلك بما شَرَع الله فيها مِنْ عبادات ورغائب، تسمو به على سائر الأزمنة. وقد شرَع الله كثيرًا مِن الأعمال والقربات في هذه الأيَّام منْها:
أولًا: أداء مناسك الحج والعمرة، فالحجُّ والعمرة يجِبان في العمر مرَّة واحدة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:97]، ويسنُّ الإكثار منْهما، وقد جاء في فضلهما أحاديث كثيرة، منْها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ»([4]).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تابِعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ؛ فإنَّهما يَنفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ كما يَنفي الكيرُ خبَثَ الحديدِ والذَّهبِ والفضَّةِ، وليسَ للحَجَّةِ المبرورةِ ثَوابٌ إلَّا الجنَّةُ»([5]). فأيُّ شيء أجزل خيرًا مِنْ هذا؟!
وفي أيام العشر تكون أعظم أعمال الحج، وقد رغَّب الله فيه أيّما ترغيب، ووعد بالثواب الجزيل لمنْ والى بين الحج والعمرة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: كثرة ذكر الله مطلقًا، فيستحبُّ الإكثار منْه لا سيما التكبير والتحميد والتهليل، وإظهار ذلك وإشاعته والجهر به للرجال، وتُخافِتُ النساء بالذكر؛ لقول الله عز وجل: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾[الحج:27-28]، والأيام المعلومات هي العشر مِنْ ذي الحجة؛ لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "الأيَّامُ المعلوماتُ: أيَّامُ العشرُ، والأيَّامُ المعدوداتُ: أيَّامُ التَّشريقِ"([6]). وروى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أيَّامٍ أعظَمُ عندَ اللهِ ولا أحَبُّ إليه العَمَلُ فيهِنَّ من هذه الأيَّامِ العَشْرِ؛ فأكْثِروا فيهِنَّ من التَّهْليلِ والتَّكْبيرِ والتَّحْميدِ»([7]).
والتكبير ينقسم إلى قسمين:
الأول: تكبير مطلق: وهو الذي لا يتقيد بشيء، فيُسَنّ دائمًا، في الصباح والمساء، قبل الصلاة وبعد الصلاة، وفي كل وقت ومكان يجوز ذكر الله فيه. ويجهر به الرجل، وتُسِّر به المرأة أمام الرجال الأجانب. ويبدأ وقته في عشر ذي الحجة وسائر أيام التشريق مِنْ غروب شمس آخر يوم مِنْ شهر ذي القعدة إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر مِنْ شهر ذي الحجة وهو آخر أيام التشريق، وذلك للأدلة الآتية:
1- الآيتان السابقتان مع تفسير ابن عباس رضي الله عنهما.
2- حديث ابن عمر السابق.
3- أنَّ ابن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهما- كانَا يَخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما([8]).
الثاني: تكبير مقيد: وهو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، ويبدأ وقته لغير الحاج مِنْ فجر يوم عرفة إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، أمَّا الحاج فيبدأ التكبير المقيد في حقه مِنْ ظهر يوم النحر؛ وذلك للأدلة الآتية:
1- عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ دُبُر صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أيّامِ التَّشريقِ"([9]).
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ جَمِيعًا"([10]).
3- قال النووي: "وَأَمَّا التَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ فَيُشْرَعُ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ"([11]).
والصحيح أنَّ التكبير المقيد يُستحب للرجال والنساء بعد الصلوات المفروضة، سواء صلى في جماعة، أو منفردًا. فإذا سَلَّم مِن الفريضة واستغفر ثلاثًا وقال: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»([12]) بدأ بالتكبير.
صيغة التكبير:
لا تلزم في التكبير صيغة معينة، بل الأمر في ذلك واسع، وأفضل صيغهِ ما أُثر عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ"([13]).
وقد هُجِر التكبير في هذا الزمان -خاصة في أوّل العشر- فلا تكاد تسمعه إلا نادرًا، فلنحرص على العمل به في مواضعه؛ لإحياء السُّنَّة، وتذكير الغافلين.
وينبغي أنْ يكبر كل واحد بمفرده، وأمَّا التكبير الجماعي بصوت واحد أو يكبر شخص ثم ترد المجموعة خلفه فلا يجوز؛ لعدم ورود ذلك في الشريعة؛ والعبادات توقيفية مبناها على الاتباع لا على الابتداع.
ثالثًا: صوم يوم عرفة والأيام الثمانية قبله، فقد تقدَّم أنَّ يوم عرفة خير الأيام وأعظمها أجرًا؛ وهو ركن الحج الأعظم، وأنَّ الله -عز وجل- يدنو مِنْ عباده في هذا اليوم فيباهي بأهل الموقف ملائكته والملأ الأعلى، فيغفر ذنوبهم، ويستجيب دعاءهم، ولذلك يشرع في هذا اليوم للحاج وغير الحاج كثرة الذكر والدعاء والإنابة إلى المولى عز وجل، وأمَّا صيام هذا اليوم فلا يستحب في حق الحاج، تأسِّيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رسول الله أسوة حسنة، فعن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها «أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ؛ فَشَرِبَهُ»([14]).
أمَّا غير الحاج فيسن له الصيام؛ لما في ذلك مِن الأجر العظيم؛ فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن صوم يوم عرفة؛ فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»([15]).
ويستحب صيام التسع كلها استدلالًا بما سبق مِن الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ»([16])، فالحديث عام في كل عمل صالح، والصيام مِنْ أفضل الأعمال الصالحة، وأحبها إلى الله.
وقد جاء عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان «يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ وَالْخَمِيسَ»([17]).
رابعًا: أداء صلاة العيد، فقد شرع الله في هذه العشر مِن القُرَبِ صلاة العيد التي تكون في عاشره، حثَّ الله عباده على أدائها في جماعة المسلمين، وأمر بحضورها مَنْ لا صلاة عليه مِنْ المسلمين؛ كالحائض والنفساء، وغيرهن، فعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى. الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ. فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ»([18]).
ففي الأمر بخروج النساء لها حتى الحيَّض منْهن؛ دليل أكيد على فضل هذه الصلاة وعظم شأنها عند الله، إذ هو مظهر مِنْ مظاهر شكر الله -تعالى- على ما يَسَّر مِنْ عبادته وطاعته في تلك الأيام.
خامسًا: ذبح الأضحيةُ التي هي سُنَّة نبي الله وخليله إبراهيم، إذ ابتلاه ربُّه لما أمره بذبح ابنه فصبر وأطاع، فأبدله الله به خيرًا، وَفَدَى ابنه بذبح عظيم، وترَكَها سُنَّة باقية إلى يوم يبعثون، أحياها الله بنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-، ففي حديث أنس -رضي الله عنه- قال: «ضَحَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكَبْشينِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووَضَعَ رِجْلَهُ علَى صِفَاحِهِمَا»([19]).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وجَدَ سَعةً فلَمْ يُضَحِّ؛ فَلا يَقْرَبَنَّ مُصلَّانا»([20]).
ثم إنه يحرم على مَنْ أراد الأضحية أخذ شيء من شعره أو أظفاره أو بشرته إذا دخل شهر ذي الحجة حتَّى يذبح أضحيته؛ لحديث أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا، حَتَّى يُضَحِّيَ». وفي رواية: «فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»([21]).
ووجوب الإمساك عن أخذ الشعر والظفر والبشرة يشمل مَن نوى الأضحية عن نفسه أو تبرع بها عن غيره، ولا يشمل من يُضَحَى عنهم من أفراد الأُسرة، ولا مَنْ ضَحى بوكالة أو وصية عنْ غيره ممنْ ترك مالًا لأضحيته.
ثم اعلم يا عبد الله أنَّ عموم الحديث المذكور سَلَفًا حاضٌّ على الاستكثار مِن الأعمال الصالحة، ولا سبيل إلى حصر العمل الصالح؛ فيكتَفى بالإشارة في ذلك، وهذا ما وَسِعَني التذكير به الآن، صوابه مِن الله، وخطأه مني ومِن الشيطان، واللهَ أسأل أنْ يُبارك لنا في أيامنا كلها، ويقربنا فيها إليه عز وجل، والحمد لله في البدء والختام، والصلاة والسلام على نبيّنا سيد الأنام، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أعده/ أ.د. حمد بن محمد الهاجري
أستاذ الفقه المقارن والسياسة الشرعية
كلية الشريعة والدراسات الإسلاميَّة – جامعة الكويت
1/ذي الحجة/1439هـ الموافق 12/08/2018
([1]) أخرجه البزار في مسنده كما في كشف الأستار (2/27)، وصححه الألباني في صحيح الجامع وزيادته (1/253).
([2]) أخرجه البخاري (969)، والترمذي (757) واللفظ له.
([3]) رواه الدارمي في مسنده (2/113)، وقال محققه حسين أسد: إسناده صحيح.
([4]) متفق عليه: رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
([5]) أخرجه الترمذي في الجامع (3/166)، والنسائي في سننه (5/115). وصححه الألباني في تحقيقه على مشكاة المصابيح (2524).
([6]) رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به (2/457 مع فتح الباري).
([7]) أخرجه أحمد في المسند (10/296) والطبراني في الدعاء ــ ص(272)، والبيهقي في الدعوات الكبير (2/155).
([8]) أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا به كما في الفتح (2/457)، ورواه موصولًا الفاكهي في "أخبار مكة" (1013)، وقال محققه ابن دهيش: إسناده حسن.
([9]) رواه ابن المنذر في الأوسط (2200)، والبيهقي (6496).
([10]) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (970)، ورواه موصولًا ابن المنذر في الأوسط (4/344).
([11]) "المجموع" للنووي (5/32).
([12]) رواه مسلم (136).
([13]) رواه ابن أبي شيبة (5651)، وصححه الألباني في الإرواء (3/125).
([14]) متفق عليه: رواه البخاري (1988)، ومسلم (1123).
([15]) رواه ومسلم (1162).
([16]) رواه البخاري (٩٦٩)، والترمذي (757)، واللفظ له.
([17]) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2437).
([18]) متفق عليه: رواه البخاري (981)، ومسلم (883).
([19]) متفق عليه: رواه البخاري (5565)، ومسلم (1966).
([20]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (14/24)، والحاكم في المستدرك (4/258)، وصححه الألباني.
([21]) رواه مسلم (1977).
مقالات مقترحة

حكم ذبح الذبائح لشكر النع...
يقدم ا.د حمد بن محمد الهاجرى مقال بعنوان حكم ذبح الذبائح لشكر النعم أو دفع ا...
651
0

حكم الاجتماع في آخر شعبان...
يقدم ا.د حمد بن محمد الهاجرى مقال بعنوان حكم الاجتماع في آخر شعبان لتوديع ال...
527
0

حكم الاحتفال بعيد الأم
يقدم ا.د حمد بن محمد الهاجرى مقال بعنوان حكم الاحتفال بعيد الأم
3571
9
التعليقات
أضف تعليق