أحكام الشهرة وضوابطها
تاريخ النشر : 2024-09-02
عدد المشاهدات : 473
مرات التحميل : 0
-
لا يوجد ملفات للتحميل
أحكام الشهرة وضوابطها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، المبعوث بالحق المبين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والأمناء الصادقين، وعلى مَن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فالشهرة مرض العصر، وقاصمة الظهر، يدعيها مَن ليس من أهلها، ويسابق إليها أصحاب النفوس الضعيفة، فلها بريق أخّاذ، يلهث خلفه الكثير من الناس، بحق وبغير حق، وهي -مع ما تحدثه في المجتمع من مفاسد- تحبط عمل صاحبها، وتصده عن الله -عز وجل-، وكما قيل([1]): "ما صد عن الله مثل طلب المحامد، وطلب الرفعة".
لذا وجب التنبيه على ضررها، وتحذير العقلاء من طلبها والسعي خلفها، فالأمر جد خطير، ويكفي فيه قول إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "ما صدق الله عبد أحب الشهرة"([2]).
تعريف الشهرة:
الشهرة لغة: ظهورُ الشّيء في شُنْعةٍ حتّى يَشْهَرَه النّاس([3]). والشَّهيرُ والمَشْهورُ: المَعْرُوفُ المكانِ، المذكورُ، والنَّبيه([4]).
قال الجَوْهري: الشُّهْرَة: وضوح الأَمر([5])، قال ابن سيده: والشَّهْرُ: القمر، سمي بذلك لشُهْرَته وظُهوره([6])، وقال الزَّجَّاج: سُمِّي الشهر شهراً لشهرته وبيانه([7]).
الشهرة اصطلاحاً: إن شهرة الشخص عند الناس تعني ذيوعه وظهوره وبروزه، ومعرفة أكثر الناس أو كثير منهم له، وعدمَ خفاء أموره عليهم، وانتشار أخباره، وذكره في المجالس، وكثرة متابعيه والمعجبين به، وهي مظنة العجب والغرور، وعدم قبول النصح واتباع غرائب الأمور.
وقد ابتلي كثير من الناس بحبها، فسعوا سعياً حثيثاً وراءها، حتى إنهم أصبحوا لا يرون في الدنيا شيئاً غيرها، ولربما تخلوا عن عقيدتهم ومبادئهم وقيمهم وأخلاقهم من أجل البحث عن هذه الشهرة؛ التي ما هي إلا سراب خادع يحسبه الظمآن ماء.
حكم طلب الشهرة.
لا شك أن الإنسان مجبول على حب المدح والثناء، وكره الثلب والقدح؛ وهذه فطرة إنسانية، وجبلة بشرية، لكن الموفق من كان همه الأول، وشغله الشاغل؛ مدح الله له، وثناء الله عليه، ورضا الله عنه، فاجتهَد في تحصيل الإخلاص، واستوى عنده مدح الناس وذمهم، فالإنسان ربما اعجبته نفسه وأحب الظهور فيعاقب، فكم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه مَن يؤذيه؛ لسوء قصده وحبه للرئاسة، فعلى العبد أن يجاهد نفسه، ويخلص نيته، ويحسن مقصده. وقد تكاثرت الأدلة الشرعية في بيان فضل التواضع والخفاء، وكراهية الشهرة والحظوة عند الناس، ومما جاء في ذلك:
1- قال الله -تعالى-: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[القصص:83].
2- قال رسول الله ﷺ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ؛ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»([8]).
فهذا الحديث يتضمن غاية التَّحذيرِ من شرِّ الحرصِ عَلَى المالِ والشَّرفِ في الدُّنْيَا. والشَّرَف: هو المكانة العالية([9])، والشُّهرة والرياسة والمنصب والجاه والهَيْبة.
وقد اجتمعت هاتان الآفتان في طُلاب الشهرة، فيبذل بعضهم -لأجل نيل الشهرة والمال- دينه ومروءته وشرفه وأخلاقه وراحة أهله وولده.
3- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا، أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([10]).
4- عن عامر بن سعد، قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله. فجاءه ابنه عمر. فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب. فنزل. فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره، فقال: اسكت. سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»([11]). والخفي: هو الذي لا يظهر أعماله الصالحة للناس.
5- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: «رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ؛ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»([12]).
6- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا»([13]).
فبيّن النبي ﷺ في هذين الحديثين أن الميزان الشرعي في تقييم الشخص هو ما يحمله في قلبه من تقوى لله -عز وجل- والاستقامة على دين الله، وأما المظهر أو الشهرة فلا أثر لهما.
فدلت هذه الأدلة على كراهة حب الشهرة وطلبها، إلا أنها قد تزداد كراهية أو ترتقي للحرمة إذا اقترن بها أمر محرّم؛ كالكبْر، والكذب، والغش، والتدليس، وكشف العورات، وغيرها من المحرمات.
موقف السلف من حب الشهرة وطلبها.
كان الصّحابة وسلف الأمة -رضوان الله عليهم أجمعين- يكرهونَ الشُّهرةَ غايةَ الكَراهةِ، ويفرّون منها فرار الفريسة من الأسد؛ لعلمهم بخطورتها، وأنّها سببٌ في البُعد عن الإخلاص لله -تعالى-، وكانوا إذا عُرفوا في مكَانٍ ارتحلُوا عنهُ.
قال بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: "شهدت خيبر، وكنت فيمن صعد الثّلمة، فقاتلت حتّى رئي مكاني، وعليّ ثوب أحمر، فما أعلم أنّي ركبت في الإسلام ذنباً أعظم عليّ منه"([14]). أي: الشّهرة.
قال إبراهيم النخعي والحسن البصري-رحمهما الله-: "كفى فتنة للمرء أنْ يُشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا، إلا مَن عصمه الله"([15]).
وقال بشر بن الحارث رحمه الله: "ما أعرف رجلاً أحبّ أنْ يُعرف إلا ذهب دينه وافتُضِح أمرُه!"([16]). وقال -أيضا-: "لا يجد حلاوة الآخرة رجل يُحبّ أنْ يَعرفه الناس"([17]). وعنه: "ما اتقى الله من أحب الشهرة"([18]).
وهذا أويس بن عامر القرني، سيد التابعين، يختار أن يكون في غبراء الناس، فلما فطن له الناس أنطلق على وجهه فلم يفطن إليه أحد، فعن أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ، قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» فَأَتَى أُوَيْساً، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْداً بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ([19]).
مساوئ الحرص على الشهرة.
عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ؛ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»([20]).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ -فِي فَسَادِ الدِّينِ-: لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ؛ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ"([21]).
إنّ حب الشهرة وطلبها، والسعي خلف بريقها، هو من أدواء النفوس المريضة، ومن الاغترار بالدُّنيا، فكثيرٌ من الناس تَتُوق نفسه إلى أنْ يُشار إليه بالبنان، أو أنْ يكون حديثَ المجالس، أو أنْ يُسمع قولُه أو يُكتب، فيَسعى بكلِّ سبيلٍ لتحقيق ذلك.
فمن الناس من يستميت في طلب الشّهرة؛ باستجداء المشاهير أنْ يعلنوا لحسابه. ومنهم مَن يطلبها بخفّة عقله وسخف قوله. ومنهم من يطلبها بحكايات وقصص يرويها أو يخترعها. ونساء يطلبن الشّهرة بخلع الحجاب ونبذ الحياء، ومنهنّ من تطلبها بعرض حياة أسرتها وأطفالها على النّاس. ولا يزال طلّاب الشّهرة يسعون إليها بكلّ سبيل.
ومن مساوئ الشهرة: أنها قد تؤدي للمباهاة والتفاخر والإعجاب بالنفس، فإنَّ النَّفسَ تُحبُّ الرِّفَعَةَ والعُلوَّ عَلَى أَبناءِ جنسِهَا، وَمن هُنا نشأَ الكِبرُ والحسدُ، وهما من الصفات المذمومة التي حذّر منها الشارع الكريم، وذمّها، قال النبي ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»([22]).
وقال النبي ﷺ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ، يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»([23]).
أقسام الناس في طلب الشهرة:
ينقسم الناس في طلب الشهرة إلى فريقين:
فمن الناس من وقفَ مع منزلتِهِ عندَ الخلْقِ، وانشغلَ بما حَصَل لهُ عندَهم بعلم الظاهرِ من شرفِ الدنيا، وكان همُّهُ حِفظَ هذهِ المنزلةِ عندَ الخلقِ، وملازَمتَهَا وتربيتها، والخوفَ من زَوَالِها، فكانَ ذلكَ حظَّهُ من اللَّه، وانقطَعَ به عنهُ، فهو كما قالَ بعضُهم: ويلٌ لِمَن كانَ حَظُّهُ مِن اللَّه الدُّنْيَا. قال الله -تعالى-: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[النازعات:37-41]، وقال الله -سبحانه-: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾[الأعلى:16].
ومن الناس: عقلاء يُنافسُون في العُلوِّ الدائم الباقي الَّذِي فيهِ رضوانُ اللَّه، وقُربُهُ وجِوارُهُ، ويَرغَبُون عن العُلوِّ الفاني الزَّائلِ، الَّذِي يعقُبُهُ غَضبُ اللَّه وَسخطُه، وانحطاطُ العبدِ وسُفُولُه، وبعدُهُ عَن الله وطردُهُ عنه، قال الله -تعالى-: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾[فاطر:10].
وقال الحسن: إِذَا رَأَيتَ الرَّجلَ يُنافسكَ في الدُّنْيَا فنافِسْهُ في الآخرةِ([24]).
وقال وُهَيبُ بنُ الوَرْدِ: إِن استطعتَ أَن لَا يسبقَكَ إِلَى الله أَحدٌ فافعلْ([25]).
ومَن رزقهُ الله ذلك اشتغلَ به عن طلبِ الشَّرفِ الزائلِ، والرئاسةِ الفانية. قال الله -تعالى-: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾[الأعراف:26].
ومَن اشتغلَ بما يرفع منزلتَه عندَ اللَّه، فاشتغلَ بذلك عن طلبِ المنزلةِ عندَ الخلقِ، فإن الله -مع هذا- يُعطيهِ المنزلةَ في قُلوبِ الخلقِ، والشَّرفَ عندَهم، وإن كان لا يريدُ ذلك ولا يَقفُ معهُ؛ بل يَهرَبُ منهُ أَشدَّ الهربِ ويفِرُّ منه أَشدَّ الفِرَارِ؛ خشيةَ أن يقطعَهُ الخلقُ عن الحقِّ -جل جلاله-، قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[مريم:96]. أَيْ: حُبّاً فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ([26]).
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "مَن أحبّ أنْ يُذكَر لم يُذكَر، ومَن كره أنْ يُذكَر ذُكِر"([27]). وصدق -رحمه اللّه تعالى-؛ فمَن بذل في سبيل الشّهرة دينه ومروءته لم يُذكر بخير، وكان عاقبة أمره خسراً، ومَن اجتهد -من أهل العلم والشّأن- في التّخفّي أعلى اللّه -تعالى- مقامه، ورفع في الأنام ذِكره، وهذا ممَّا يُعجِّلُهُ الله لهم في الدُّنْيَا مِن شرفِ التَّقوى، وهيبةِ الخلقِ لهم في الظَّاهرِ.
كما أن الله يرزقهم حلاوةَ المعرفةِ به، والإيمان والطَّاعةِ في الباطن، وهي الحياةُ الطيِّبةُ التي وعدهَا الله لمن عَمِلَ صالحاً من ذكر أو أُنثى وهُو مُؤمنٌ، وهذهِ الحياةُ الطيِّبةُ لم يذُقها -في الدُّنْيَا- الملوكُ ولا أَهلُ الرئاساتِ والحرصِ عَلَى الشَّرفِ، كما قالَ إبراهيمُ بنُ أَدهمَ: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش، لجالدونا عليه بالسيوف"([28]).
وقال النبي ﷺ: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ»([29]).
وعلى كُلِّ حالٍ؛ فطلبُ شرف الآخرةِ يَحصلُ معه شرف الدُّنْيَا، وإنْ لم يُرِدْهُ صاحبُهُ، ولم يطلُبهُ، وطلبُ شرف الدُّنيا يمنع شَرفَ الآخرةِ، ولا يَجتمعُ معهُ، فعن النبي ﷺ أنه قال: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»([30]).
فالسعيدُ من آثَرَ الباقي عَلَى الفاني؛ كما في حديثِ أبي موسى، عن النبي ﷺ أنه قال: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ، أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ، أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى»([31]).
متى تُحمد الشهرة؟
إذا حصلت الشُهرةُ للمرء من دون أن يطلبها أو يحرص عليها أو يتعلق قلبه بها، فلا حرج عليه في ذلك، وعليه أن يصحح نيته، وأنْ يستغلها في الخير، ويُوظّفها فيما يُرضي الله -تعالى-، ويستعملها فيما ينفعُه في دنياه وأخراه.
فإن علية القوم وكبار الناس في الدين والدنيا لا بد أن يعرفوا بين الناس، ويحصل لهم شيء من الشهرة بحسب حالهم ومقامهم وحاجة الناس إليهم؛ فليس من الحكمة ولا من الشرع في شيء أن يترك نشر الخير والدعوة إلى الله، بدعوى الخوف من الشهرة، بل يحرص على نشر الخير ونفع الخلق مع الحرص على التحفّظ مما يمكن التحرّز عنه من موجبات الغرور ومنغصات الإخلاص.
ضوابط الشهرة.
ليعلم -أولاً- كل مغمور أنه في نعمة عظيمة تستوجب الشكر منه، ويشهد على ذلك مَن فقدها مِن المشاهير الأصفياء حين صاروا في ذروة الابتلاء، وحين حُرِموا من نعمة الخفاء وعدم الشهرة، ولا شك أن الشهرة بلاء عظيم؛ لا يعلم خطرها إلا مَن ابتلي بها.
وليعلم من ابتلوا بالشهرة أن لها ضوابط ومحاذير؛ لينجوا من فتنتها، ويحسنوا توظيفها، ومنها:
1- أن يسموا بصدقهم وإخلاصهم عن التكدّر، ويسعَوْا بهممهم إلى المقاصد العالية، والطُّمُوحات الغالية، ويسلكوا الجادة ويتجافوا عن المعرّات والبنيّات.
2- أن يستثمرُوا الشهرة بالدعوة إلى الدّين الحقّ، وبيان محاسنه وأحكامه وأخلاقه، والحفاظ على ثوابت الدين، وقيمه النبيلة، وأهدافه السامية، ونشر العلم النافع، والعمل الصالح.
3- أن يكونوا مفاتيح للخير، مغاليق للشرّ؛ فعيون الناس عليهم مرصودة والآمال عليهم معقودة، ولا شك أن لهم شفاعات، وتيسر لهم الصعوبات، فليستخدموها في ننفع الناس وجلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم، فيكونوا مفاتيح خيرٍ، مغاليق شرٍ.
4- أن يستعملوها في خدمة أوطانهم وتنميتها، والحفاظ على أمنها وسمعتها.
5- أن يسخِّروا الشهرة في بيان الحق، ونصرته وأهله، والذّبّ عن أعراض المسلمين.
6- أن يجتنبوا الدعاية لأمور محرمة، أو أفعال غير لائقة، أو تضليل المتابعين؛ بالترويج لبعض المنتجات المزيفة والمقلّدة، أو التشجيع على مخالفة بعض التعاليم الشرعيّة، وعلى الانبهار بغير المسلمين وتقليدهم، فهذا من الغش المحرّم، ومن التعاون على الإثم والعدوان.
7- أن يتحملوا المسؤولية الكبيرة التي عليهم؛ لأنّ كثرة المتابِعين تجعل المسؤولية مضاعفة على المتابَع، فكل ما ينشره من منكرات قولية أو فعلية أو صور أو مقاطع، أو غير ذلك، فسيتحمّل أوزاره وأوزار كل هؤلاء المتابِعين، قلّوا أو كثروا، كما قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾[النحل:25]، وسيتضاعف العدد والإثم فيما لو قام هؤلاء المتابِعون بنشر ما وصل إليهم، وهكذا تستمر مضاعفة السيئات ويكون الإثم مضاعفاً بعدد المتابِعين، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً»([32]).
[1] القائل: ابن الحداد سعيد بن محمد بن صبيح المغربي، سير أعلام النبلاء (14/214).
[2] ومن هؤلاء الذين يطلبون الشهرة على حساب الدين، بدون أي موهبة أو محتوى، أو الذين يسترخصون أنفسهم، مهما كانت نوعية الرسالة التي يقدموها، ما ذكره الشهاب الخفاجي في حاشيته علي تفسير البيضاوي، ط: دار صادر، (5/56): عن "رجل خامل الذِّكر، لمَّا قدِم مكة بال في زمزم؛ ليشتهر بين الناس"، أي ليقولوا: هذا الذي بال في بئر زمزم!
وعندما صنف الخطيب البغداديُّ كتابه "تاريخ بغداد"، وسمعَتْ به الدُّنيا، كان هناك رجلٌ يسمَّى: ابن البناء الحسن بن أحمد بن عبد الله البغدادي، من كُبَراء فقهاء الحنابلة، فلمَّا سمع بالكتاب، قال: "هل ذكرني الخطيب في (تاريخ بغداد) في الثقات أو مع الكذابين؟ قيل: ما ذكرك أصلا. فقال: ليته ذكرني ولو مع الكذابين!". انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، ط: الرسالة، (18/831).
[3] العين، ط: دار ومكتبة الهلال (3/400).
[4] القاموس المحيط، ط: مؤسسة الرسالة، (ص:412).
[5]الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، ط: دار العلم للملايين (2/705).
[6] المحكم والمحيط الأعظم، ط: دار الكتب العلمية (4/185).
[7] معاني القرآن وإعرابه، ط: عالم الكتب (1/259).
[8] رواه أحمدُ (15784)، والترمذيُّ وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، وابن حبانَ (٤٥٦٩)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1710).
[9] مجمع الأمثال للميداني، ط: دار المعرفة (2/23).
[10] رواه أحمد (٥٦٦٤) واللفظ له، وأبو داود (٤٠٢٩)، والنسائي في الكبرى (٩٤٨٧)، وابن ماجه (٣٦٠٧)، وحسنه الألباني في تخريجه على هداية الرواة (4273).
[11] رواه مسلم (٢٩٦٥).
[12] رواه مسلم (2622).
[13] رواه البخاري (٦٤٤٧).
[14] أخرجه الذهبي في السير (2/470).
[15] أخرجه هناد بن السري في الزهد (2/ 442).
[16] إحياء علوم الدين، ط: دار المعرفة (3/276).
[17] إحياء علوم الدين، ط: دار المعرفة (3/276).
[18] سير أعلام النبلاء (10/476).
[19] رواه مسلم (2542).
[20] رواه أحمدُ (15784)، والترمذيُّ وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، وابن حبانَ (٤٥٦٩)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1710).
[21] مجموع الفتاوى (10/215).
[22] رواه مسلم (91).
[23] رواه مسلم (2088).
[24] الزهد لابن أبي الدنيا، ط: دار ابن كثير (ص229).
[25] تاريخ الإسلام للذهبي، ط: دار الغرب الإسلامي (4/250).
[26] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط: دار الكتب المصرية (11/160).
[27] سير أعلام النبلاء (8/432).
[28] صيد الخاطر لابن الجوزي، ط: دار القلم (ص299).
[29] أخرجه البخاري (٦٠٤٠) واللفظ له، ومسلم (٢٦٣٧).
[30] أخرجه الترمذي (٢٤٦٥) واللفظ له، والطبراني في الكبير (١١٦٩٠)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6510).
[31] رواه أحمد (١٩٦٩٧)، وابن حبان (٤٥٧٠)، والحاكم (٧٨٩٧) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ" ووافقه الذهبي، وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3247).
[32] رواه مسلم (2674).
مقالات مقترحة
تنبيه الغافل عن ما في يوم...
يقدم ا.د حمد بن محمد الهاجرى مقال بعنوان تنبيه الغافل عن ما في يوم النحر من...
2467
25
تنبيه الغافل مما في الصلا...
يقدم ا.د حمد بن محمد الهاجرى مقال بعنوان تنبيه الغافل مما في الصلاة على الكر...
543
0
متى يمتنع المضحي والحاج ع...
يقدم ا.د حمد بن محمد الهاجرى مقال بعنوان متى يمتنع المضحي والحاج عن الأخذ من...
1366
0
التعليقات
أضف تعليق