صيانة هيبة العلماء

تاريخ النشر : 2024-11-19

عدد المشاهدات : 401

مرات التحميل : 12

مشاركة


أضف الى المفضلة

صيانة هيبة العلماء

بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لا خلاف في عظم دور علماء الشريعة الربانيين في المجتمع، إذْ هم ورثة الأنبياء يصلح الله بهم العباد ويهدي بهم من يشاء إلى صراط مستقيم، فلذا أمر الله -عز وجل- بطاعتهم بعد الأمر بطاعته ورسوله ﷺ، فقال سبحانه وتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء:59].

قال البغوي في تفسيره: "اخْتَلَفُوا فِي ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-: هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾[النساء:٨٣]، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ)"([1]).

فأوجب الله -سبحانه وتعالى- في الآية السابقة طاعة أولي الأمر، وهم العلماء في قول كثيرٍ من المفسرين، فدل ذلك على عظم شأنهم في المجتمع، وأن الله ولّاهم منصب الإرشاد والتوجيه والتوعية وبيان الأحكام للعامة. ووردت أدلة كثيرة تبين فضل العلماء ومكانتهم العلية.

قال الله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:18]، قال ابنُ القَيِّمِ: "استَشْهَد سُبحانَه بأُولي العِلمِ على أجَلِّ مَشهودٍ عليه، وهو توحيدُه"([2]).

وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[الزمر:9].

وقال رسول الله ﷺ: «إِنَّ ‌العُلَمَاءَ ‌وَرَثَةُ ‌الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»([3]).

فالله -سبحانه وتعالى- فضّل العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، فتجب طاعتهم ولا يجوز الاختلاف عليهم، فهم أولوا الأمر الذين يبلغون الشريعة للناس.

إذا تحرر هذا؛ فإننا نلاحظ في هذه الأيام، تصرفات مؤسفة يقوم بها شرذمة من المضلِّلين، حيث يسعون لزعزعة ثقة العوام بعلماء الأمة، باتهامهم بالسكوت عن بيان الحق، والتقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخِذلان الأمة جمعاء بترك النصح لأئمة المسلمين وعامتهم.

وهذه التصرفات يجب الحذر والتحذير منها، لأنها خطيرة ومخالفة للشرع، وتحدِث فتنة في الأمة الإسلامية، ويتجلى ذلك في النقاط التالية:

أولاً: لا شك في عدم جواز التسبب في إسقاط هيبة العلماء في المجتمع، وتشكيك العامة في دِين علمائهم وأمانتهم؛ لأن ذلك يؤدي إلى منع العوام من الامتثال بأمر الله لهم بطاعة العلماء.

ثانياً: أن هذه الطائفة المحرّضة على العلماء هي نفسها التي كانت تزيّن للعوام نزع اليد عن طاعة الحكّام، فتصبح بذلك مخالِفةً لأمر الله بطاعة أولي الأمر، على كلا التفسيرين، فلا أبقوا للعلماء هيبتهم ولا للحكام منزلتهم، ولا ريب أن هذا من إثارة الفتن ونشر الفوضى في الأمّة، وذلك بانعدام المرجعية للعوام، حيث أسقطوا في أعينهم العلماءَ الذين يبينون الحق، وكذا الحكّام الذين يحملون الناس على الحق.

والواجب على المسلم السمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف؛ لأنه بذلك تستقيم الأحوال، ويحصل الأمن والاستقرار، وتأمن السبل، وينصف المظلوم، ويردع الظالم، ويأمن الناس من الفتنة، أما إذا لم يطاعوا فسدت الأمور، وقطعت السبل، وأكل القوي الضعيف.

ثالثاً: كل ما يتهمون به العلماء مع الأحداث الجارية، إنما هي دعاوي بلا بيّنة؛ إذِ العلماء قد أنكروا هذه المنكرات المنتشرة وأمروا بالمعروف، ونحسبهم أنهم أدَّوا واجبهم في ذلك، وهذا ثابت في كلامهم وكتاباتهم، ولا يعارض فيه إلا معاند، ولكنْ فرقٌ كبير بين إنكار المنكر، وبين الإنكار على الحاكم عدمَ تغيير المنكر، وفرقٌ أيضا بين التقيد بالشرع في طريقة الإنكار وبين الرضا بالمنكر أو تأييده!!

رابعاً: إنكار المنكر واجب شرعي على المستطيع بحسب قدرته، وله مراتب تختلف معها أحوال المنكرين (باليد والسلطان، أو بالعلم والبيان باللسان، أو بالقلب والجَنان)، وهذا الواجب لا يؤدّى بمخالفة الشرع؛ لأن رضا الله لا ينال بمعصيته، فوجب التقيد بالشرع في طريقة الإنكار، وفي المناسب لحال مَن يُنكر عليه، فمعالجة قضية تتعلق بولي الأمر ليس كقضية مع غيره، فلا يجوز تهييج الناس وتحريضهم على ولاة أمرهم.

ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة سراً؛ لقول رسول الله ﷺ: «مَنْ ‌أَرَادَ ‌أَنْ ‌يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ»([4]). فمن أنكر بالطريقة الشرعية فله أجره([5]).

أما التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر، أو في وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، أو في الصحف والمنشورات، فإن ذلك ليس من هدي الإسلام.

خامساً: تتهم هذه الجماعة الضالة العلماء -ظاهرا- بعدم إنكار المنكر وأنهم يسكتون عن بيان الحق، وهم في الحقيقة لا يقصدون ذلك؛ وإنما يقصدون أن العلماء لم ينكروا على الحكام عدمَ تغيير المنكر، بل ولم ينكروا على الحكّام بالطريقة الفوضوية التي يريدونها وذلك بتحريض الشعب عليهم على المنابر ومجالس الدروس.

سادساً: الواقع والحقيقة أن العلماء السلفيين إنما يتقيدون بالشرع في أدائهم لمهمّة الحسبة وفي نصحهم للحكّام، فكون العالِم لم يخض معك في وحل الفوضى في طريقة الإنكار لا يعني ذلك أنه لم يؤدّ واجبه تجاه أئمة المسلمين وعامتهم.

سابعاً: أوصي الجميع بتقوى الله في أمة محمد ﷺ، وأن نعلم أن تجريد العوام عن علمائهم وحكّامهم يورث فتنة عظيمة في الأمة الإسلامية، كما أوصي الجميع بعدم منازعة الأمر أهلَه من العلماء والحكّام، وأن تكفينا وصية النبي ﷺ حينما نرى ما نكره، وهي كما في الصحيحين: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ»([6]).

ثامناً: لو قام كل واحد منا بواجبه في أهله وولده، وفي حسن أدائه لعمله الذي أنيط به لخدمة المجتمع فيه، ثم تضرعنا إلى الله لإصلاح أمورنا وأحوالنا؛ لحُلّ كثير من مشاكلنا، أما أن نبقى مقصرين في واجباتنا ثم نحمّل المسؤولية طائفةً معيّنة ثم نتهمها بلا بينة بعدم أداء واجبها ومسؤوليتها؛ فهذا لا يعالج شيئا من الأمر، لأنه إتيان للأمر من غير بابه، نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى.

 

([1]) تفسير البغوي (2/ 239).

([2]) مفتاح دار السعادة (1/131).

([3]) رواه أبو داود (٣٦٤١)، والترمذي (٢٦٨٢) واللفظ له، وابن ماجه (٢٢٣)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (70).

([4]) رواه أحمد (15333) واللفظ له، وابن أبي عاصم في السنة (1096)، والحاكم (5269) وصححه، والبيهقي في الكبير (16738)، وصححه الألباني في ظلال الجنة.

([5]) وقد بينت في مقال سابق بعنوان: "منهج السلف في الإنكار على ولاة الأمر" الطريقةَ المشروعة في مناصحة من ولّاه الله أمرنا؛ وفقًا للأدلة وفهم السلف لها.

([6]) رواه البخاري (٣٦٠٣)، ومسلم (١٨٤٣).


التعليقات

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

لقدوصلت للحدالاقصى

0 /